[b]تتطلع قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لتحري ليلة القدر في هذه الأيام المباركة عشما في وجه الله الكريم الذي وعدهم الغفران وإجابة الدعاء في هذه الليلة المباركة، وقد اطمأنت آراء رجال الدين إلى أنها ليلة من عشر ليال يقعن على أصح الأقوال في آخر رمضان، أخفى الله وقتها ليتنافس التائبون في سباق الجائزة الكبرى، وليحصل الرابح على ما قيمته عبادة ألف شهر - 84 عاماً- دفعة واحدة، دمعة واحدة منك تخرج في تلك الليلة من عينك تائباً صادقاً في توبتك، خاشعًا منانا قليل ادب اطردونيرًا لائذًا بربّك، تكفي لتطفئ نيران وحرّ وادٍ من وديان جهنّم، وما أدراك ما وديانها؟!
ليلة تستشعر فيها إن عزمت التوبة والاستغفار، نسائم الخشوع تحطم أسوار المعصية في قلبك، تمزق ستائر غفلتك وتنزع أبوابك وشبابيك التي وقفت حائلاً بينك وبين سماع نداء ربك (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم).
وفوق هذا تجد في تلك الليلة تحديداً حلاوة في قلبك المنانا قليل ادب اطردونير بين يدي الله، ودمعه يتدفق ساخناً يفيض شوقاً في إناء سجدتك، ولا تنتهي تلك الليلة التي لا تعلم وقتها إلا ويغلب على قلبك ظنًا واحدًا لا غير، أنك وفقت في قيامها وفزت في سباقها، وفي الصباح الذى يليها يشرق نور جديد في قلبك المتطهّر من الذنب الواثق في رحمة الله.
خير من ألف شهر
يؤمن المسلمون جميعا أن الله عظم أمرَ ليلة القدر فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي أن لهذه الليلة شأنًا عظيمًا ، كما بين سبحانه وتعالى أنها خير من ألف شهر فقال :{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، أي أن العمل الصالح فيها يكون ذا قدر عند الله تعالى خيرًا من العمل في ألف شهر، وذلك مصداقاً لقول الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه : "من صام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه ليلة القدر".
وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الله بن جبرين :" هي الليلة التي أُنزل فيها القرآن، وذكر من فضلها إنزال القرآن فيها، وأنها خير من ألف شهر، أي العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر، وذلك دليل فضلها.
ويضيف فضيلته :" من فضلها أن الملائكة، والروح تنزل فيها لحصول البركة، ومشاهدة تنافس العباد في الأعمال الصالحة، ولحصول المغفرة، وتنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذّنوب العظيمة، ومن فضلها أنها (سلام) أي سالمة من الآفات والأمراض. ومن فضلها حصول المغفرة لمن قامها لقوله، صلى الله عليه وسلم:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه".
من جانبه يقول الشيخ عبد المقصود إبراهيم ـ من علماء الأزهر ـ "المؤمنون عليهم أن يخلصوا العبادة لله عز وجل في كل زمان ومكان وفي كل الأحوال من دون التقيد بشيء وتحديد الله لبعض العبادات بالزمان أو المكان إنما هو إرشاد للناس كي ينتفعوا بالزمان والمكان وما يحمله من ذكريات وعظات".
ويضيف:" يعظم المؤمنون جميع ليالي رمضان ويجتهدوا فيها بالعبادة والقرب من الله عز وجل ويحرص المسلم عليها جميعا"، وتابع:" في كل هذا تحريض للهمم واستنهاض للعزائم واغتنام الفرص والانتفاع بتلك الأوقات وتعويد النفس البشرية على أن يكون إقبالها على الله عز وجل مجردا من أي شيء إلا ابتغاء وجه الله تعالى".
تحديد المستقبل
ويؤكد العلماء أن الله تعالى أخفى ليلة القدر كما أخفى أشياء كثيرة ومنها إخفاؤه رضاه في الطاعات حتى يرغب الناس في الكل وأخفى غضبه في المعاصي كي يبتعدوا عن الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم في أسماء الله سبحانه وتعالى ليعظموا كل الأسماء وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في كل اليوم، وأخفى قبول التوبة والعمل ليواظب المكلفون على الأعمال وليسارعوا إلى التوبة، وأخفى وقت الموت لينتظره العابد في كل وقت ليستعد له المؤمنون.
وحول الحكمة في اخفاء ليلة القدر يقول الدكتور مبروك عطية: " ليلة القدر ليلة يحدد فيها مصير مستقبلك لعام قادم حيث تنسخ الآجال , وفيها يفرق كل أمر حكيم".
ويضيف دكتور عطية :" ولا احد يعرف متى تكون بالضبط ليلة القدر ، ولله فى ذلك حكمة بالغة وهى كما اوضح العلماء تحصيل الإجتهاد في إلتماسها ، بخلاف ما لو عينت لها ليلة لأقتصر عليها قيامها والدعاء فيها ،عن عائشة رضي الله عنها قالت : {قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني}.
يقول الدكتور محمود عاشور -وكيل الازهر الاسبق- :"على المسلم المدرك لامور دينه ان يعرف ان ما يشاع بين كثير من الناس من أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي توزع فيها الأرزاق والتي يبين فيها ويفصل من يموت ومن يولد في هذه المدة إلى غير ذلك من التفاصيل من حوادث البشر غير صحيح".
من جانبه يقول الشيخ فرحات المنجي من علماء الأزهر: "أخفي الله عز وجل ليلة القدر كما أخفي رضاه في الطاعات حتي يرغب الناس في الكل وأخفي غضبه في المعاصي كي يحترزوا ويبتعدوا علي الكل وأخفي الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعاء".
ويضيف الشيخ فرحات المنجي :" أخفي ليلة القدر ليعظموا جميع ليالي رمضان ويجتهدوا فيها بالعبادة والقرب من الله تعالي والذي يهمنا ويعود علينا بالنفع في دنيانا وأخرانا أن نجد ونجتهد كي ننال بركة ليلة القدر ولن ينال انا قليل ادب اطردونيلان أو غافل ثوابها وبركتها ولكن الذي راقب ربه فقام ليله بعد أن صام نهاره وتلا القرآن آناء الليل وأطراف النهار ونوي أن يعتكف في مساجد الله يسبحه ويستغفره ويدعوه ويرجو رحمته ويخشي عذابه هو الذي سيفوز بجوائز تلك الليلة المباركة وأي جائزة أفضل من غفران الذنوب".
ويقول الدكتور على جمعة مفتى الديار المصرية عن سبب تسميتها بليلة القدر، ان ليلة القدر سميت بهذا الاسم لأمرين :"أنها ذات قدر عظيم وهذا واضح فى قوله تعالى ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) وذلك لعظم أجرها وثوابها موضحا أنها ليلة يقدر فيها عند الله كل أمر حكيم وعظيم وكل أمر يتعلق بالإنسان من صحة وأرزاق وتقوى".
ويضيف فضيلته :" أما الأمر الثاني ان هذه الليلة قد اختصت بها امة الإسلام فقط لكشف ما بها من أسرار ، مستشهدا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان ) يعد تكريما لهذه الأمة لقوله تعالى ( كنتم خير امة أخرجت للناس ) .
وعن سبب التسمية يقول الدكتور جمال قطب ـ رئيس لجنة الفتوي السابق بالأزهر الشريف ـ "يرجع ذلك لعدة اسباب منها لشرفها وعظيم قدرها عند الله، وقيل لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، لقوله تعالى: 'فيها يفرق كل أمر حكيم'، كما قيل لأنه ينزل فيها ملائكة ذوات قدر، أولأنها نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول ذي قدر وأمة ذات قدر، وأيضاً سميت بذلك لانه قيل أن للطاعات فيها قدراً عظيماً، وقيل لأن من أقامها وأحياها صار ذا قدر".
سر الرقم سبع وعشرين
طال الكلام في تحديدها واختلف الناس في تعيينها حتى أنها أصبحت "حدوتة" كل رمضان، وأكثر الأدلة ترجّح أنها في السبع الأواخر، أو أنها ليلة سبع وعشرين، لما استدلَّ به على ذلك من الآيات والعلامات وإجابة الدعاء فيها، وطلوع الشمس صبيحتها لا شعاع لها، والنور والضياء الذي يشاهد فيها.
وقد ثبت في السنة ما يدل على أنها ليلة إحدى وعشرين ، وأنها ليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان ، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم:«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» ، وهذا يدل على أنها متنقلة في العشر الأخيرة من رمضان كما يقول المحققون من أهل العلم .
الملائكة تغادر الأرض
وحول علامات ليلة القدر تؤكد الدكتورة سعاد صالح ـ أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر ـ "أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذه العلامات والتى منها أن تطلع الشمس لا شعاع لها بعد تلك الليلة".
وتضيف د. صالح:"قد يرجع ذلك لان الملائكة تغادر الأرض بعد الفجر فتحجب هذه الكائنات النورانية الشعاع القادم من الشمس إلى الارض ، كما أنها ليلة لا حر فيها ولا برد لقوله تعالى 'سلام هي حتى مطلع الفجر'.
من جانبه يشير الدكتور محمود عاشور -وكيل الازهر الاسبق- الى ان من حصل له رؤية شىء من علامات ليلة القدر يقظة فقد حصل له رؤيتها، مؤكداً أنه :"من المعروف ان أكثر علاماتها لا يظهر إلا بعد أن تمضى، مثل أن تظهر الشمس ولا شعاع لها، أو حمراء ".
قيام ليلة القدر
ست وظائف ينبغي أن يشغل المسلم بها ليالي العشر الأخيرة كلها ؛ طلباً لليلة القدر ، وهي :
1- القيام : لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [أخرجه البخاري] .
2- الدعاء : لقول عائشة رضي الله عنها : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : «قُولِي : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» [الترمذي] .
3- المحافظة على الفرائض : والمحافظة على الفرائض مطلوب في كل وقت، ولما كانت الفرائض أحب الأعمال إلى الله كانت المحافظة عليها في ليلة القدر من آكد الأعمال ، قال الله تعالى في الحديث القدسي : (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ).
4- المحافظة على المغرب والعشاء في جماعة : لحديث مسلم الذي حدث به عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ» .
5- الاجتهاد في العبادة : فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"، وفي رواية لمسلم : "وجدَّ"، وقولها : "شد مئزره" فيه تفسيران : الأول : قيل : اعتزل نساءه، الثاني : اجتهد في عبادته فوق عادته، وهو الصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف كل رمضان في العشر الأخيرة، ومعلوم أنّ المعتكف لا يقرب نساءه، قال تعالى :{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
6- الاعتكاف : وبه يتمكن الإنسان من التشمير عن ساعد الجد في طاعة الله ، ولذا "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ" كما قالت عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري